المادة    
  1. عدم فهم النصوص الشرعية سبب من أسباب الضلال

    قد تعرض الشاطبي رحمه الله في كتابه القيم الاعتصام إلى تعريف البدعة، وأنواعها، وأحكامها، ومناهج أهل البدع في الاستدلال، وأسباب ضلال أهل البدع، وله كلام في غاية الجودة ومنه قوله (2/801) "الباب العاشر: في بيان معنى الصراط المستقيم الذي انحرفت عنه سبل أهل الابتداع، فضلت عن الهدى بعد البيان".
    قال: "إن الله عز وجل أنزل القرآن عربياً لا عجمة فيه، بمعنى أنه جارٍ في ألفاظه ومعانيه وأساليبه على لسان العرب؛ قال الله تعالى: ((إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا))[الزخرف:3]، وقال تعالى: ((قُرآنًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ))[الزمر:28]، وقال تعالى: ((نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنذِرِينَ * بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ))[الشعراء:193-195] وكان المنزل عليه القرآن عربياً أفصح من نطق بالضاد، وهو محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم، وكان الذين بعث فيهم عرباً أيضاً، فجرى الخطاب به على معتادهم في لسانهم.
    فليس فيه شيء من الألفاظ والمعاني إلا وهو جارٍ على ما اعتادوه، ولم يداخله شيء، بل نفى عنه أن يكون فيه شيء أعجمي، فقال تعالى: ((وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ))[النحل:103]، وقال تعالى في موضع آخر: ((وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا أَعْجَمِيًّا لَقَالُوا لَوْلا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ))[فصلت:44]..." إلى آخر كلامه.
    ومسألة وجود ألفاظ في القرآن أصلها أعجمي ليس من مقصودنا؛ مع أنه لو وجدت فيه كلمات أصولها أعجمية، فإن الكلمة إذا عربت واستخدمها العرب صارت عربية، كما أنه يوجد الآن في كثير من لغات العالم كلمات عربية قد صارت من ضمن كلامهم؛ لأنهم عجموها؛ وهي كلمات كثيرة؛ لاسيما في اللغات القريبة؛ مثل الحبشية، والتركية، والهندية والإيطالية، والفارسية، وهي في الفارسية أكثر، وهذه قاعدة وأصل من أصول الفهم.
    ومن أسباب ضلال الفرق: العجمة وعدم فهم القرآن، والأمثلة على ذلك كثيرة، فهم إما أنهم لا يفهمون القرآن، وإما أنهم يستخدمون الكلمة في غير موضعها، فمثلاً يقول الله تعالى: ((قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ))[المؤمنون:88] وكلمة الملكوت وردت في القرآن في أكثر من موضع، فيقول: أبو حامد الغزالي العالم عالمان: عالم الدنيا، وعالم الملكوت، وأحياناً يقول: عالم الملكوت، وعالم الجبروت والعالم المشهود، وعالم الملائكة وعالم العقول العشرة، فالملكوت عندهم عالم آخر وليس هذا هو معنى الملكوت الوارد في القرآن.
  2. أمثلة لما عليه أهل الضلال من عدم فهم القرآن

    ذكر الشاطبي رحمه الله أمثلة لكلام الذين ضلوا في الشريعة بسبب عدم فهم القرآن، قال: "أحدها: قول جابر الجعفي في قوله تعالى: ((فَلَنْ أَبْرَحَ الأَرْضَ حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي))[يوسف:80] أن تأويل هذه الآية لم يجئ بعد، وكذب؛ فإنه أراد بذلك مذهب الرافضة ؛ فإنها تقول: إن علياً في السحاب، فلا يخرج مع من خرج من ولده، حتى ينادي علي من السماء: اخرجوا مع فلان؛ فهذا معنى قوله تعالى: (فلن أبرح الأرض حتى يأذن لي أبي) الآية عند جابر؛ حسبما فسره سفيان من قوله: لم يجئ بعد. قال سفيان : وكذب، بل هذه الآية كانت في إخوة يوسف".
    قال: "ومن كان ذا عقل، فلا يرتاب في أن سياق القرآن دال على ما قاله سفيان، وأن ما قاله جابر لا ينساق".
    ثم ذكر الإمام الشاطبي مثالاً آخر، فقال: "والثالث: قول من زعم أن المحرم من الخنزير إنما هو اللحم، وأما الشحم فحلال، لأن القرآن إنما حرم اللحم دون الشحم، قال: ولو عرف أن اللحم يطلق على الشحم أيضاً -بخلاف الشحم فإنه لا يطلق على اللحم- لم يقل ما قال".
    يستدل هذا الجاهل بقول الله تعالى: ((قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ))[الأنعام:145]، فيقول: إن الله حرم لحم الخنزير في هذه الآية، فبأي دليل تحرمون الشحم؟! وهذا من جهله، والعجمة من أسباب ذلك؛ لأنه في لغة العرب أن اللحم يطلق على اللحم والشحم، فإذا قلت: أريد أن أشتري لحم بقر، كان معناه واضحاً، وهو أنك تريد أن تشتري لحم بقر لا لحم سمك ولا لحم غنم، وليس مقصودك أنك تريد لحماً بدون عظام ولا شحم.
  3. الصحابة والتابعون هم المرجع في فهم النصوص

    لما كان القرآن عربياً ونزل على أفصح العرب صلوات الله وسلامه عليه، فتلقاه أفصح الناس بعده، وهم الصحابة الكرام، فلا يجوز لنا العدول عن فهمهم للقرآن؛ لا بجدال ولا بمراء؛ لأنه إن كان تفسيره بالقرآن، فهم أفهم منا للقرآن، وإن كان تفسيره بالسنة، فالسنة إنما نقلت عن طريقهم، وإن كان تفسير القرآن يفسر بكلام الصحابة والتابعين، فهم الصحابة والتابعون، وإن كان بكلام العرب فهم أفصح العرب وأعلمهم باللغة؛ فانحصرت طرق تفسير القرآن جميعاً في فهمهم، فنفهمه كما فهموه.
    يقول الشاطبي : "وإذا ثبت هذا، صح منه أن القرآن في نفسه لا اختلاف فيه" أي: لا يوجد فيه تناقض، قال تعالى: ((وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا))[النساء:82] ثم يقول: "ثم نبني على هذا معنى آخر، وهو أنه لما تبين تنزهه عن الاختلاف، صح أن يكون حكماً بين جميع المختلفين؛ لأنه إنما يقرر معنى هو الحق، والحق لا يختلف في نفسه؛ فكل اختلاف صدر من مكلف، فالقرآن هو المهيمن عليه".
    أي: لا نجادل في القرآن ولا نضرب بعضه ببعض؛ لأن القرآن هو الذي يحسم الجدل، ويقطع النزاع؛ فلا نجعله هو مادة للنزاع والجدل.
    وهذا فرق كبير جداً بين أهل البدع وأهل السنة ؛ فأهل البدع جعلوا القرآن نفسه موضع جدل؛ فمن يحكم بينهم إن كان القرآن هو موضع الجدل بذاته؟! وأما أهل السنة فجعلوا القرآن حكماً يفصل بين الخلق فيما يتنازعون فيه.